الرأي

مغرب ما بعد كورونا…نحو التأسيس للدولة الاجتماعية…

بقلم : طه السعدوني.
جائحة كورونا، تجربة فريدة من نوعها يعيشها المغاربة، فرضت تحولا كبيرا في نمط حياتنا اليومية، وضيقت مجال حركتنا و حريتنا، وجعلتنا نعيش يوميا تحت هاجس تهديد عدو غير مرئي لكنه فتاك وسريع الانتقال…هذه الجائحة أربكت كذلك التقديرات السياسية لصناع القرار و مدبري الشأن العام و وضعتهم أمام تناقضات صارخة بين مطلب تأمين الاقتصاد وحركة الإنتاج و بين مطلب المحافظة على صحة و سلامة المواطنين.
هذه الظروف الصعبة التي تجتازها البلاد والعباد، مست في العمق مفهوم الدولة وأدورها والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والمجتمع المدني والقطاع الخاص ومسؤوليتهم وموقعهم من الدولة…كما عرت هشاشة السياسات الاجتماعية المتبعة منذ سنين في مجالات الصحة والتعليم والسكن وأنظمة الحماية الاجتماعية.
ففي المجال الصحي ، تبين، أنه لا البنية التحتية و لا المعدات و لا الموارد البشرية في مستوى التحديات، و أن من بين القضايا التي يتعين علينا مواجهتها، ذلك العجز الهيكلي الهائل الذي ليس سوى نتيجة لخيارات سياسية غير متناسقة، أحالت لعقود، الصحة إلى الرتب الأخيرة من حيث الأولويات…كما عرت هذه الجائحة حجم ضعف خدمات منظومتنا التعليمية الوطنية وبشدة، حيث ثبت أن النظام التعليمي غير قادر على التحرك بالسرعة والجودة المطلوبتين، من نظام التعلم الحضوري وجهاً لوجه إلى التعليم عن بعد، الذي فرضه الحجر الصحي.
ان هذه الجائحة دفعت وستدفع فئات عريضة إلى حافة الفقر والبطالة والإفلاس ومن ثم فإن من تداعياتها المرتقبة، مخاطر تهدد السلم والأمن الاجتماعين، مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من مخاطر سياسية وتهديدات للاستقرار السياسي والاجتماعي.
لكن و ان نظرنا للأمور من زاوية إيجابية يمكن إعتبار جائحة كورونا فرصة لا تعوض للتصحيح و لبناء مرحلة جديدة من المغرب الذي نريد، لأنها كشفت عن إمكانيات كامنة سواء على مستوى القدرة على الاستجابة للتحديات التي وضعتنا أمامها الجائحة، وهو ما أفرز عددا من التجارب الرائدة و القرارت السيادية التي كشفت عن المعدن النفيس للمغاربة، كما أنها كشفت عن إمكانيات كامنة لقيم التضحية والتضامن والانضباط والانتماء الوطني وتقدير المسؤولية و التأقلم مع الظروف الصعبة.
وفي هذا السياق، ينبغي التأكيد، وبكل فخر، أنه بفضل التعبئة التلقائية والفعالة للعاملين في مجال الصحة والتعليم، فإن هاتين الركيزتين الرئيسيتين لبنيتنا الاجتماعية كانتا و رغم قلة الإمكانيات كما سبق الذكر قادرتين على إثبات قدرتهما على الاستجابة والمرونة.
فلم يعد هناك مجال للشك أن التغطية الاجتماعية والصحية، وكذلك التعليم و السكن، مجالات يجب أن تكون وظائف ذات سيادة وأن دور القطاع الخاص فيها بجب أن يقتصر فقط على الدعم، إد يجب على الدولة أن تحزم أمرها لوضع السياسات والوسائل المالية القادرة على ضمان الكرامة و الرفاهية للمغاربة من خلال:
· إنقاذ نظام الصحة العمومية من خلال بناء نظام صحي مجاني و مستدام وفعال و في متناول جميع الفئات الاجتماعية.
· إصلاح المنظومة التعليمية لبناء نظام تعليمي عمومي، مجاني يتماشى مع احتياجات البلاد في سوق الشغل.
· تصميم وتفعيل نظام تغطية صحية واجتماعية شاملة لجميع الشرائح الاجتماعية.
· إعداد خطة لتأطير مجالي السكن الاقتصادي و إعادة إسكان قاطني دور الصفيح و تسقيف الأسعار بعيدا عن جشع شركات العقار بما يضمن للمغاربة الكرامة و المساوات…
يجب أن يكون تحقيق هذه المهام جزء من سياسة مدروسة لبناء هيكل اجتماعي صلب، تدعمه دولة اجتماعية، لتغطية جميع جوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، فتجربة التعاطي مع الجائحة في المغرب تبشر بميلاد جديد للدولة، ويمكن القول أن بلادنا قد وجدت الطريق نحو النموذج التنموي الجديد المنشود من خلال استجابتها لتحدي الجائحة، إلا أن تجسيد هذه “الدولة الاجتماعية” رهين بإرادتنا في التخلص من السياسات النيولبرالية، هذه السياسات اللاإنسانية، التي فرضتها علينا مؤسسات البنك الدولي و منظمة التجارة العالمية، و الشركات المتعددة الجنسيات، يجب إعادة النظر فيها بدقة، و مهما كانت التكلفة، لنستعيد سيادتنا الوطنية من حيث تصميم وتنفيذ سياساتنا الاجتماعية برمتها (الصحة والتعليم و السكن والخدمات الاجتماعية في تنوعها…) وخياراتنا الاقتصادية الأساسية.
وعلى هذا النحو، فإن استجابة الدولة، مع الإنشاء الفوري لصندوق تدبير و مواجهة فيروس كورونا الذي تغذيه الميزانية العامة، ولكن أيضا من خلال هذا الزخم غير المسبوق من العطاء والتضامن الوطني، يظهر بوضوح أنه في مثل هذه الظروف، ليس هناك بديل للسلطات العمومية، وينبغي تحويل حضورها الآن بسرعة إلى نموذج للحكم حيث يكون للدولة الكلمة الرئيسية في تصميم وتنفيذ السياسات الاجتماعية والاقتصادية، نموذج تسود فيه الاعتبارات الاجتماعية على كل الاعتبارات الأخرى، حيث تستطيع الدولة بمختلف مؤسساتها، ولا سيما الجهات و الجماعات، من خلال الإنفاق العمومي، الموجه بحكمة وتأثير عقلاني، أن تضمن الحماية الاجتماعية الشاملة، و الخدمات العامة، المجانية والمتاحة للجميع وذات جودة عالية (الصحة والتعليم و السكن و القضاء والأمن والخدمات العامة المحلية و الاعلام…) و هذا ما يرتكز عليه دور “الدولة الاجتماعية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى