الرأي

محاولات بناء الدولة الاجتماعية في المغرب… النظرية و الممارسة…

بقلم : طه السعدوني.

بعد مقالنا السابق و عنوناه ب “مغرب ما بعد كورونا…نحو التأسيس للدولة الاجتماعية…” و الذي تطرقنا من خلالها إلى فضح جائحة كورونا لهشاشة الدولة المغربية في المجال الاجتماعي خاصة على مستوى الصحة و التعليم و التغطية الاجتماعية، و ضرورة توجه الدولة في المستقبل القريب و بمختلف مؤسساتها لضمان الحماية الاجتماعية الشاملة، و الخدمات العامة، المجانية والمتاحة للجميع وذات جودة عالية (الصحة والتعليم و السكن و القضاء والأمن والخدمات العامة المحلية و الاعلام…) و هذا ما يرتكز عليه دور “الدولة الاجتماعية”، سنتحدث في هذا المقال عن محاولات بناء الدولة الاجتماعية في المغرب… بين النظرية و الممارسة…
ففي المغرب، توجد مكونات الدولة الاجتماعية في العديد من الجوانب و البرامج الاجتماعية والاقتصادية، فمنذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش في 30 يوليو 1999، تم اطلاق العديد من المشاريع التأسيسية للرؤية الاجتماعية المتعمدة والتي تقوم على :
• نهج للحكم يضع الإنسان في صميم جميع السياسات، تم الإعلان عنه بواسطة “دعوة 12 أكتوبر 1999” حول “المفهوم الجديد للسلطة”، و الذي مهد الطريق نحو إصلاحات جديدة متعددة الأبعاد.
• إطلاق عملية التقييم بأثر رجعي بعد الخطاب الملكي في 20 أغسطس 2003 لعملية التنمية البشرية منذ استقلال البلاد، من أجل تطوير رؤية التنمية البشرية للسنوات العشرين القادمة، حيث أفضى التقييم إلى تقرير بعنوان “50 سنة من التنمية البشرية في المغرب و وجهات نظر لعام 2025” ، والذي شكل “التنمية البشرية” منه المفهوم الموحد.
في ضوء نقاط الضعف الهيكلية الخطيرة، والمتميزة بالفقر وعدم الاستقرار والتهميش الاجتماعي التي كشف عنها التقرير المذكور أعلاه، تم إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهي استراتيجية إنمائية شاملة تضم جميع الحقوق الأساسية (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية) و تضع الإنسان في صميم اهتماماتها، وقد خصص لتنفيذها موارد مالية كبيرة.
يكرس كذلك دستور يوليوز 2011 بوضوح أسس “دولة الرفاهية” حيت تنص الفقرة الأولى من ديباجة الدستور على ما يلي:
“ووفاءً لخيارها الذي لا رجعة فيه لبناء دولة ديمقراطية تحكمها سيادة القانون، فإن المملكة المغربية تواصل بحزم عملية توطيد وتقوية مؤسسات الدولة الحديثة، على أساس مبادئ المشاركة والتعددية والحكم الرشيد، إنها تطور مجتمعًا متحدًا حيث يتمتع الجميع بالأمن والحرية وتكافؤ الفرص واحترام كرامتهم والعدالة الاجتماعية، في إطار مبدأ الارتباط بين حقوق وواجبات المواطنة”.
بمزيد من التفصيل، تنص المادة 31 من الدستور على أن “الدولة والمؤسسات العامة والسلطات المحلية تعمل على تعبئة جميع الوسائل المتاحة لتسهيل الوصول المتساوي للمواطنين في ظروف تسمح لهم التمتع بالحق في الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الطبية والتضامن المتبادل أو التي تنظمها الدولة في التعليم الحديث والميسور والجيد …”
بالإضافة إلى ذلك، تم تنفيذ العديد من السياسات العامة التي تهدف إلى تحسين الحياة الاجتماعية والاقتصادية اليومية للمغاربة والحد من التفاوتات الاجتماعية والإقليمية طوال الفترة 1999-2019. ولكن من الواضح أنه على الرغم من هذه البرامج والسياسات القطاعية، لم تكن النتائج موجودة… و لا يزال المغرب في مرتبة سيئة للغاية على مستوى مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، ولا تزال الفوارق الاجتماعية قائمة بل تزداد سوءا، و السبب بلا شك هو سعي الحكومات المتعاقبة للحصول على نموذج اقتصادي نيوليبرالي، مبني حول فك ارتباط الدولة بالمجالات الإجتماعية، وتحرير القطاع الخاص وتعزيزه، بدون ضمانات اجتماعية، مما أدى إلى الكوارث الاجتماعية، التي نعيشها، هذا النموذج التنموي حيث لا يتناغم النمو مع التقدم لأن الاستثمار العام في الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية يعتبر بدعة، أدى على مدى أكثر من ثلاثة عقود، إلى توسيع التفاوتات الاجتماعية، وقد تم الكشف عنه اليوم في عدم القدرة على التعامل مع أزمة إنسانية بحجم أزمة كورونا.
يجب أن تشكل هذه الدعوة من الملك إلى “إقامة عقد اجتماعي جديد” نقطة تحول حاسمة حيت يجب أن يبنى النموذج التنموي الجديد على أساس سياسات اجتماعية قوية تبني وتحمي الإنسان وتجعله شخصا مشبعا بقيم التضامن والشعور بالمسؤولية و المواطنة.
يجب أن يقود هذا البناء “دولة الرفاهية” في هذه الأوقات من أزمة كورونا إلى دولة سخية تخلع مالها وتحرر نفسها من سياسات التقشف والقيود على الميزانية، دولة تزيل من لوحة العدادات مؤشرات معدل العجز ومعدل التضخم، لتحل محلها مؤشرات معدل التغطية الطبية والاجتماعية المعممة، ومعدل التعليم المعمم على مقياس الدولة، ومعدل القضاء على الفقر وعدم الاستقرار والإقصاء الاجتماعي … لقد عدنا أكثر من أي وقت مضى إلى زمن “الدولة الاجتماعية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى