غضب الضابط “حَمِيدْ” غضبًا شديدًا ثم أمر مساعديه أن يُطَوِّقَا مِعْصَمَيْ “لْحْسِينِي” ويزجّا به داخل السيارة الرمادية
عثمان العماري
الحلقة 22/ لهيب الانصرام
سَأَلَ اٰلضَّابِطُ “حَمِيدْ” “دَادَا عْبُوشْ”:
-أأنتِ التي أخبرتِ لْمْقَدّْمْ بنجاةِ ابنِ أختكِ منَ الغرقِ بالبئرِ” ؟!
-“نَعَمْ يَا سَعَادَةَ اٰلضَّابِطِ”.
-“ومَا حُجَّتُكِ فِي ذَلِكَ”؟!
-“لَقَدْ أَخْبَرَتْنِي بِهِ لَالَّة خْنَاتَة”.
-“وَ مَنْ تَكُونُ لَالَّة خْناتَة هَذِهِ؟ أَهِي قَرِيبَتُكِ” ؟
-“لَا يَا سَعَادَةَ اٰلضّابِطِ”.
-“وَمَنْ تَكُونُ”؟!
-“إِنَّهَا لَخَسَارَةٌ كَبِيرَةٌ لَكَ إِذْ لَا تَعْرِفُهَا يَا سَعَادَةَ اٰلضَّابِطِ”!
-“كَفَاكِ لَفًّا وَدَوَرَانًا، وَأَجِيبِي عَنْ سُؤَالِي، مَنْ هِي خْنَاتَة” ؟!
-“إِنَّهَا عَرَّافَةٌ تَقْطُنُ بِقَرْيَةِ اٰلظَّلَامِ”.
-“”هَلْ قْلْتِ اٰلْعَرَّافَةَ” ؟
-“نَعَمْ يَا سَعَادَةَ اٰلضَّابِطِ”.
-” أهَذِه هِيَ حُجَّتِكِ”؟!
-“وهلْ هُنَاكَ حُجَّةٌ أَقْوَى من كَلَامِ اٰلشّْرِيفَةِ “لَالَّة خْنَاتَة” ؟ اطلبْ مِنْهَا اٰلتّْسْلِيمْ يا سعادةَ الضابطِ كيْ لَا تتكسَّرَ فيكَ شوكتُهَا”.
{نظر الضابط “حَمِيدْ” نَحْوَ لْمْقَدّْمْ غاضبًا، ثم صَرَخَ فِي وجهه}:
-لماذَا لم تخبرنَا بأمرِ العرافة يا عْبِيقَة ؟ ألِهَذَا جِئْتَنَا لَاهِثًا وَجَشَّمْتَنَا كلَّ هذا العناءِ من أجلِ تنبؤاتِ مُشَعْوِذَةً أَفَّاكَةٍ خَرَّاصَةِ “؟!
فأجابهُ مصدومًا، مُتَجَهِّمَ الوجهِ:
-حتَّى أنا لمْ تُخبرنِي “دَادَا عْبُوشْ” بأمرِهَا يا سعادةَ الضابطِ. لقدْ كذبتْ عَنِّي، وقالتْ لِي إنَّها رأتْ -بِأُمِّ عَيْنَيْهَا- شيخًا يُنقذُ ابنَ أختِهَا من الغرق بِاٰلْبِئرِ، ثم حَمَلَهُ عَلَی ظَهْرِ بغلةٍ بيضاءَ، وَخَطَفَهُ نحو قريةٍ بعيدةٍ مجهولةٍ” !
{ردَّتْ عليهِ “دَادَا عْبُوشْ” ذَارِفَةً دُمُوعَ تَمَاسِيحَ}:
-سَيُحَاسِبُكَ اللهُ عَنْ كَذِبِكَ عَلَيَّ زُورًا أَيُّهَا لْمْقَدّْمْ عْبِيقَة” !.
{تنهَّدَ الضابط “حمِيدْ” مُحْبَطًا، ثم أكملَ أسئلتهُ لِلَالَّة حْلِيمَة}:
-“هل تَشُكِّينَ في أحدٍ أسقطَ ابنَكِ بالبئر”؟
-“لا يا سيدي. لقد سقطَ مِنْ تِلْقَاءِ نفسِهِ بعدما زَلَقَتْ قَدَماهُ بِاٰلْإِسْفَلْتِ اٰلْمُبَلَّلِ”.
-“وما أدْرَاكِ أنَّهُ سَقَطَ زَالِقًا”؟
-“ليسَت لنا أيُّ عدواةٍ مع أحدٍ من أهلِ شرقاوةَ كيْ يُسقِطَهُ بِاٰلبئرِ يَا سعادةَ الضابطِ”؟
-“وَمَا يُدْريكِ؟ لَعَلَّ أُخْتَكِ هَذِهِ مَنْ أسقطتْهُ بِهَا، أو حتَّى أخوكِ ذَاكَ “.
-“ماهذا الكلامُ يا سيِّدي؟! فلوْ كانت أختي هَذِهِ مَنْ أسقطتْهُ بالبئرِ، مَا تَجَشَّمَتْ عَنَاءَ السفرِ إلى العرَّافةِ كيْ تعلمَ منها مصيرَهُ. ولو كانَ أخي ذَاكَ مَنْ فَعَلَهَا٬ مَا أنقذ أخَاهُ “مْحْمُودْ” من رمي نفسه بالبئر واللحاق بأخيهِ. حرامٌ عليكم أن تَشُكُّوا فِي أخَوَيَّ اٰللَّذينِ ليسَ لي غيرهُمَا أسْتَنِدُ عَلَيْهِ في هذهِ الحياةِ القاسيةِ بعدَ موت زوجي رحمه الله “.
-“لن تعلمينا الحرامَ من الحلالِ يا هذه. فَبَحْثُنَا فِي هَذِهِ اٰلْقَضِيَّةِ يُحَتِّمُ علينا أنْ نَشُكَّ فَي أيِّ شَخْصٍ، حتَّى لَوْ كنتِ أنتِ”.
{دافعت “دَادَا عْبُوشْ” عن نفسها من اتهام الضابطِ حَمِيدْ لها}:
-لقد كنتُ بسوقِ جُمُعَةِ “فُوكُو” سَاعةَ سقط ابنُ أختي بالبئر يا سعادة الضابط. ولو كنتُ أنَا اٰلَّتِي أسقطتهُ بهَا مِثْلمَا اٰتَّهَمْتَنِي، مَا كُنْتُ طَلَبْتُ مِنْ لْمْقَدّْمْ “عْبِيقَة” أن ينقلَ لكمْ خبرَ نجاتهِ منَ الغرقِ، واختطافِ صَاحِبِ البغلةِ البيضاءِ لَهُ مثلما أخبرتني
“لَالَّة خْنَاتَة” بذلك”.
{دَافعَ اٰلْحَاجْ عَبْدْ اٰلسّْلَامْ عن نفسهِ أيضًا}:
-“لا يمكن أن أفعل شيئا كهذا يا سعادة الضابط. فالغريق ابن أختي من لحمي ودمي. وأوصاني به صديقي المرحوم الذي كان يشتغل بناء معي. فكيف أوقع ابنه بالبئر؟ ثم إنني كنت في قرية “أوْلَادْ دَاوْدْ” كي أُتِمَّ بناءَ حظيرة للأبقار ساعةَ وقع ابن أختي ببئر اٰلشُّؤْمِ” ؟!
-“وما أدرانِي أنكَّ كنتَ بالقرية التي ذكرتَ”؟!
-“يمكنك أن تذهب إليها بنفسك، ثم تسأل عني”اٰلْحَاجْ رْحَّالْ”. فهو صاحب الحظيرة التي كنت أبنيها له، وسيؤكد لك بعظمة لسانهِ صدقَ كلامي، فقد كنتُ عنده ساعة وقع ابن أختي بالبئر. وحين سمعتُ الصراخَ والنحيب يتعالى، أنهيت بنائي مرعوبا٬ ثم خرجت أنظرُ مصدر الصوت، فوقعت عيناي من فوقِ تَّلَّةِ “أوْلَادْ دَاوْدْ” علی جموع غفيرة من الناس يجتمعون حول بئر “لْعَيْوْج”٬ فجريت نحوهم مسرعا٬ وحين أدركتُ وصولي إليهم، عرفت من أختي أنَّ الهالك ابْنُهَا مْحَمّْدْ رحمهُ اللهُ”.
{زَكَّتْ “لَالَّة حْلِيمَة” كَلَامَ أخَوَيْهَا معًا، فَقَالَتْ لِلضابطِ حَمِيدْ }:
-“إن كلَّ مَا قالهُ أََخَوايَ صحيحٌ، وأنا عليهِ شاهدةٌ”.
اقتنع الضابط “حَمِيدْ” بكلامهم، ثم أتمَّ سؤال “لَالَّة حْلِيمَة”:
-“هل عثرتم على جُثَّتِهِ”؟
-“لا يا سَيِّدي”؟
-“هل بحثتم عنها”؟
-“نعم يا سعادة الضابط”.
-“من بحث عنها”.
{لمْ تُجِبْهُ٬ كَيْ لَا تُوَرِّطَ مَنْ غَامَرَ بِنَفْسِهِ مِنْ أَجْلِ إِنْقَاذِ اٰبْنِهَا}.
لكنَّ لْمْقَدّْمْ عْبِيقَة أجَابَهُ:
-إنه السَّيِّدُ “لْحْسِينِي” يا سَيِّدِي. فهو الذي هبط إلى قعر اٰلبئرِ بحثا عنه٬ لكنه لم يجد سوى فرْدَةِ بلغتهِ الصفراءِ تطفُو على سطح الماء. وحين غطسَ في الأعماق لم يجد لهُ أثرا، فَأخْبَرَنَا أَنَّ اٰلْوِدْيَانَ اٰلْجَوْفِيَّةَ اٰلَّتِي تَصُبُّ فِي بِئْرِ “لْعْيَوْجْ” اٰبْتَلَعَتْه اٰبْتِلَاعَ اٰلْبِحَارِ لِلسُّفُنِ اٰلْمَخْرُوقَةِ، وَجَرَفتهُ مِيَاهُهَا صَوْبَ عَالمٍ مَجْهُولٍ”.
أمرَ اٰلضَّابِطُ “حَمِيدْ” أحدَ مُسَاعِدَيْهِ٬ ولْمْقَدّْم “عْبِيقَة” أن يذهبَا صوب منزل “لْحْسِينِي”٬ ثم يأتيَا بصاحبه فورًا. فَحَثَّا خُطاهُمَا نحوه، وجاءَا به على عجل. فخاطبهُ الضابط “حَمِيدْ” مُوَبِّخًا:
-“لم يكن في علمي أنك تقوم بعمل رجال الدرك نيابة عنهم أيها السَّبَّاحُ اٰلْأَسْمَرُ. ألا تعرف عقوبة هذا الفعل” ؟!.
– “لم أفعل إلا ما أملاه علي ضميري وواجبي. ولو كنتم تؤدون مهنتكم كما ينبغي، لجئتم ساعة سقط الطفل الشرقاوي بالبئر قَصْدَ إنقاذه من الغرق، أو انتشال جُثمانه على الأقل بما لديكم من وسائل؛ وَتَسْلِيمِه أُمَّهُ المكلومةَ هذهِ كي تدفنه بيديها، وتُشفيَ غليلها على قبره بكاءً ونَحِيبًا. ليسَ حتَّى مرَّ على ضياعِهِ أحدَ عشرَ يومًا، وَصَارتْ جُثَّتُّهُ مُتَحَلِّلَةً فِي مِيَاهِ الأرضِ السَّابعةِ”.
{ثم نظر بُرْهَةً في وجهِ لْمْقَدّْمْ عْبِيقَةَ كي يحرجهُ بعدما أدرك أنه وشى به لدى رجال الدرك، ونكث العهد الذي قطعه لحكماء شرقاوة ووجهاء القرى المجاورة؛ فأتمَّ جَوابَهُ للضابط حَمِيدْ}:
-“لكن يبدو أن لْمْقَدّْمْ “عْبِيقَة” لم ينقل إليكم الخبر في وقته”.
{تجهم وجه “عْبِيقَة” وبدأ يغمز “لْحْسِينِي”. في حين غضب الضابط “حَمِيدْ” من جواب اٰلْكَهْلِ اٰلْأَسْمَرِ اٰلْجِرِّيءِ. فردَّ عليه وشرارُ اٰلْحَنَقِ يتطاير من عينيهِ اٰلحَمْرَاوَيْنِ}:
-“أعدْ ما قلتَ أيها الكلب”؟
-“لقد سمِعتَهُ بأذنيكَ”.
-“أتريدُ أن ترينا عملنا يا كلبُ”؟
-“الكلب أوفى من بعض البشر يا سعادة الضابط”.
{غضب الضابط “حَمِيدْ” غضبًا شديدًا، ثم أمر مساعديه أن يُطَوِّقَا مِعْصَمَيْ “لْحْسِينِي” بالقيدِ الحديدي، ويَزُجَّا به داخل السيارة الرمادية، ثم قال له}:
-“سترى أَيَّ جحيمٍ ينتظركَ بسِجْنِ “عَيْنْ عْلِي مُومْنْ” أيُّهَا الكلبُ؟ ستقبعُ بغياهبهِ عُمْرَكَ كُلَّهُ”.
يتبع