من النضال الجماهيري إلى نضال التنسيقيات.. محاولة فهم

بقلم : عبد الرحيم رجراحي
شهد المجال العمومي في المغرب في السنوات الأخيرة ظاهرة غير معهودة في النضال على المطالب العادلة والمشروعة؛ إذ تم الانتقال من النضال الجماهيري الذي ميز المغرب في سنوات الستينات والثمانينات، والذي عرف انخراط مختلف الجماهير الشعبية، من فلاحين وعمال وتلاميذ وأساتذة…إلخ، إلى نضال ينضوي تحت تنسيقيات متفرقة، هنا وهناك، للأطباء والأساتذة والمعطلين وحاملي الشهادات العليا ومن فرض عليهم التعاقد…إلخ، باستثناء حركة عشرين فبراير سنة 2011 التي شهدت انخراطا جماهيريا فعليا، شاركت فيه مختلف الفئات الشعبية.
فكيف نفسر هذا الانتقال من النضال الجماهيري إلى نضال التنسيقيات؟ أ ليس مَرَدُّهُ إلى الانحراف عن الحلم الكبير في تحقيق مجتمع اشتراكي يضمن الكرامة والعدالة الاجتماعية لعموم الناس على قدم المساواة؟ أ ليس مَرَدُّهُ إلى هيمنة الرأسمالية المعولمة، وما تكرسه من أنانية متمثلة في النضال على المصالح الضيقة دون اعتبار للمصلحة العامة؟ كيف السبيل لنضال يكون في مستوى مقاومة الرأسمالية المعولمة وما تخلِّفه من فوارق طبقية ومآسي إنسانية وكوارث بيئية؟
لا ريب أن مقالا للرأي لا يتسع لاستيفاء الجواب عن الأسئلة التي طرحناها في فاتحة هذا المقال، لذلك فأقصى ما نستطيع إليه سبيلا هو لفت الانتباه للظاهرة المشهودة، وإجلاء بعض أسبابها، في محاولة للتفكير في مداخل للانفلات من البنية السائدة، وهو تفكير يعني مختلف الفاعلين في الشأن العمومي، وما وجهة نظرنا إلا شجرة من غابة، وغيضا من فيض الممكنات المطروحة.
لا شك أن وضع الحاضر يختلف عن الماضي، ولعل أبرز ميسم للزمن الراهن هو أفول السرديات الكبرى التي كانت تبشر العالمين بالخلاص، وهو الأمر الذي كان يستدعي انخراط عموم المهمشين في مشروع التغيير، مغلبين المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. غير أن سيادة الرأسمالية المعولمة وما كرسته من ظاهرة تقسيم العمل، أفرزت أنانيات لا ترى غير مصالحها الضيقة، أنانيات تطمح للترقي الاجتماعي على حساب عموم المقهورين، أنانيات تأتي على الأخضر واليابس من ثروات البر والبحر والجو…إلخ غير مكثرة بمصير من يموتون جوعا وأمراضا، أي نعم، لا تكترث لملايير من هم تحت عتبة الفقر في العالم، ما بالك أن تكترث لمصير الأجيال التي ستأتي.
وقد صاحب الشرط التاريخي الجديد أشكالا جديدة من النضال لعل أبرزها ظهور نقابات العمال التي من المفترض فيها الدفاع عن حقوق الموظفين والمأجورين، وتحسين ظروف عملهم ضد جشع الشركات، وتقشف الحكومات. غير أن الآمال المعقودة عليها سرعان ما خابت؛ إذ ضاقت الشغيلة من بروقراطية النقابات، ولم تعد تتحمل مساومتها بهموم العمال، بل لم تعد تثق في شعارات قوادها الذين شاخوا ووهن العظم منهم ولازالوا متشبثين بجنون الزعامة، فضلا عن أنهم يدْعون إلى التغيير وهم لم يغيروا حتى الكراسي التي يجلسون عليها في النقابات لعقود من الزمن، ويناضلون ضد الريع في الظاهر، وينعمون فيه من وراء ستار !!
نتيجة لهذا الوضع المأزوم الذي يَرَشَحُ بالمفارقات، صارت تظهر إلى الوجود تنسيقيات مستقلة عن النقابات، وعن وصاية زعمائها الذين يعاندون منطق التاريخ، وهو ما جعلها تحضى بمصداقية أكثر في المجال العمومي، وبتضامن مختلف الفاعلين فيه، ولعل ما شجع أكثر تكاثرها هو تحصينها لمكتسبات، وتحقيقها لملفات مطلبية خارج سيناريو الحوار الاجتماعي الذي تلعب فيه النقابات دور البطولة دون أن يكون هذا الحوار في مستوى انتظارات الشغيلة.
لكن على الرغم من أهمية المكتسبات التي تم تحصينها، والملفات المطلبية التي تم تحقيقها من طرف هذه التنسيقيات، إلا أنها تبقى ضعيفة، ومعرضة دوما للزوال، نظرا لكونها تظل مؤقتة وفئوية وغير مؤطرة بوعي سياسي يأخذ في الاعتبار شروط الحاضر ورهانات المستقبل، وهو ما يجعلها سرعان ما تأفل تاركة المجال العمومي للفراغ أو بالأحرى للزعامات التقليدية التي تُطَبِّعُ مع واقع الأمر، وتبرر الجمود أكثر مما تعمل على تغييره.
فما العمل والحالة هذه؟ هل نترك الجمل بما حمل ونسلِّم الأمر لقُوى خارقة لتأتي بالخلاص أم نقاوم بيروقراطية النقابات وتقشف الحكومات وجشع الشركات؟
الواقع أنه إن كان لنا من قَدَرٍ والحالة هذه فلن يكون إلا قَدَرَ المقاومة، لكن ليس بمعناها الذي توارثناه عن الأجداد، أي المقاومة بمعنى العمل المسلح أو العمل الديبلوماسي؛ كلا، فهذين الوسيلتين، في اعتقادنا، استنفذتا إمكاناتهما التاريخية؛ إذ لم يعد ممكنا تبني طريق العنف المادي الذي صار محكوما عليه سلفا بالفشل أمام ترسانة قوى القمع التي تمتلكها الدُّول لحراسة رساميل الشركات متعددة الجنسيات، والحفاظ على وضع الاستبداد والاستغلال والحيف، أي الحفاظ، باختصار، على ظروف الربح غير المشروع؛ مثلما أن العمل الديبلوماسي صار لعبة غير مجدية أمام فقدان الثقة في الشأن السياسي، حيث شراء الذمم والأمية والتزوير والمكر…إلخ، فعن أية مقاومة إذاً نتحدث؟
نقصد بالمقاومة، في هذا المقام، تطوير سياسات جذرية للرغبة بموجبها يصير الناس ليسوا كائنات مستهلكة فحسب كيفما اتفق، مستهلة لأنواع المأكل والمشرب والمسكن والملبس…إلخ، ومستهلة لأنواع الأخبار والإشهارات والدعايات…إلخ، دون شك ولا حذر ولا تريث ولا نقد، وإنما نقصد بالمقاومة أساسا ترشيد استهلاكنا، وإعادة النظر في سياسات رغباتنا، لكي تكون فاعلة لا منفعلة فحسب، أي أن تكون في مستوى فضح أنواع الخطابات التي تَقْلِبُ الواقع وتشوهه وتزيفه، وليس الاكتفاء باستهلاك هذه الخطابات والتطبيع معها دون أدنى مقاومة.
إن هذا النوع من المقاومة هو الذي يجعل رغباتنا تنفلت من البنية القائمة، من خلال التفكير ضدها، ولعل مقاطعة الاحتكار وغلاء الأسعار من جهة، ومقاطعة الانتخابات من جهة أخرى التي تعيد، في الواقع، إنتاج الوضع القائم، وتضمن له الاستمرارية، لوسيلة فعالة لتجذير وضع التهميش، وإحداث التصدع في المركز، وحمله على إعادة النظر في سياساته التي تنتج الظلم والحيف والمآسي…إلخ.
يتبين إذن مما تَقَدَّمَ، أن المقاومة التي نقصدها هي بحق شكل من أشكال النضال التي تتناسب مع شرطنا التاريخي الذي لم تعد تجدي معه نفعا الأشكال التقليدية للنضال، من قبيل الأحزاب والنقابات والتنسيقيات…إلخ، والتي تناضل، وعيا منها أو عن غير وعي، في اتجاه إعادة إنتاج الوضع القائم، وضمان استمراريته، لا في اتجاه مقاومته في أفْق تغييره والقطع معه نحو بديل يسع العالمين.